❞ كتاب الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى ❝

❞ كتاب الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى ❝

الأنثروبولجيا البنيوية الجزء الثانى من علم نفس واجتماع

تأليف :كلود ليفي ستروس
ترجمة :د. مصطفي صلاح

الانثروبولوجيا البنيوية يختفي كل كتاب في المجال هذا دون كلود ليفي ستروس، آخر أساتذة الفكر البنيوي والذي لعب دورا حاسما في المجرى الفكري للقرن العشرين. فتح قارات نظرية جديدة في العلوم الإنسانية، وبخاصة في علم الإثنولوجيا الذي أحدث في مجالاته وأساليب مقارباته ثورة كوبيرنيكية شبيهة بالثورة التي أنجزها سيغموند فرويد في مجال التحليل النفسي.

بدأ ليفي- ستروس حياته العملية بدراسة علم الإثنيات، قبل أن تغيّر مكالمة هاتفية مسار حياته وتجلب له حظّاً وشهرة وافرين، وهو يتلقى ذات صباح من أيام خريف 1934م عرضاً من مدير دار المعلمين العليا بباريس للعمل كأستاذ علم الاجتماع في جامعة ساو باولو البرازيلية. وهكذا، مثلما يحكي ذلك في سيرته الفكرية "المدارات الحزينة" الصادرة 1955م، بدأت أهمّ تجربة في حياته، وهو يتولّى مهامّ استكشافية إثنوغرافية في "ماتو غروسو" وفي غابات الأمازون، ويلتقي قبائل هندية تعيش في مجتمعات يقال عنها "بدائية" حيث وصف، بشكل رائع، حياتها وعاداتها ومعتقداتها دوّنها في تقييداته المسمّاة "الحياة العائلية والاجتماعية عند هنود نامبيكوارا". وقد حمل من رحلاته الإستكشافية بالبرازيل بين عامي 1935 و 1939م علماً غزيراً وجزءاً لا يُقدّر من ذاكرة الهنود وحياتهم وأساطيرهم اليومية. وبسبب قوانين حكومة فيشي المعادية لليهود، صرف ليفي ستراوس من الخدمة طبقاً للقوانين العنصرية التي سنّتها، وانتقل لاجئاً، برفقة العشرات بمن فيهم شاعر السوريالية أندريه بروتون، إلى أمريكا حيث عُيّن أستاذاً بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي بنيويورك [1942 ـ 1945]، وفيها عاش "مرحلة هامة من العمل الفكري العميق" بجوار علماء أنثروبولوجيا لامعين، مثلما التقى بالعالم اللغوي رومان ياكبسون الذي استمع إلى دروسه، وتأثّر به، قائلاً:"كنت أمارس البنيوية دون أن أدرك ذلك، وقد أفادني ياكبسون عن وجود منهج علمي قائم". وبعدما وضعت الحرب أوزارها، التحق بالمركز الجامعي للبحث العلمي بباريس. وبعد توالي دراساته الرائدة في الأنثروبولوجيا والإشعاع الذي تركته في زمنها، جرى انتخابه بالكوليج دوفرانس في كرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية عام 1959م، وبالأكاديمية الفرنسية عام 1973م.
ترك كلود ليفي- ستروس كتباً كثيرة خلخلت جزءاً مهمّاً في مفاهيم العلوم الإنسانية، من أهمّها: "البنيات الأساسية للقرابة"1949م، وفيه يدرس المبادئ التي يقوم عليها نظام القرابة وقوانينها، متوقّفاً عند مسألة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، أي هذه الحياة التي تدور على تبادل الممتلكات والنساء والرسائل. و"الأنثروبولوجيا البنيوية" 1958م، الذي رفضته دار غاليمار بذريعة أن فكر الكاتب "لم يبلغ بعد مرحلة النضج"، وهو مجموع مقالات عالج فيها ليفي- ستروس أنساق القرابة والعلاقة بين اللسانيات والأنثروبولوجيا، وبنية الأساطير، ووضعية الأنثروبولوجيا في العلوم الإجتماعية، والسحر ومكان الرمزية فيه. وفي الجزء الثاني، الصادر عام 1973م، يمسك بطريقة في التحليل سعت إلى التأكيد على البنى المخبأة للظواهر الإنسانية، انطلاقاً من فرضية أن "الطبيعة الحقيقية تظهر في البداية من خلال العناية المبذولة للتهرب من إبرازها"، متطرّقاً إلى النزعة الإنسية والنقد الأدبي وكتابات روسو وفضل دوركايم على الأثنولوجيا. و"الفكر البدائي"1962م، الّذي أظهر فيه الكاتب أن فكر "البدائيّين" لا يختلف في طبيعته عن فكر الإنسان المتحضّر، وكلّ ما في الأمر أنّ منطلق "الفكر البدائي" يحوِّل خصائص الواقع، متوجّهاً بالنقد إلى سارتر. و"الطوطمية اليوم"1962م، وفيه يعرض لمختلف النظريات في تفسير الطوطمية، واجداً في تطبيق عالم الحيوان والنبات والجماد على المجتمع وأنظمته مفتاح تفسيره للطوطمية على الخصوص، ومبيِّناً أن الطوطمية ليست سوى وهم من ابتداع الغربيّين الذين لم يفهموا ما تقوم به "الطوطمية" من دوْرٍ تصنيفيّ. إلى جانب ذلك، كرّس مشروعه العلمي في تحليل "الميثولوجيات" بأجزائه الأربعة الممتدّة بين 1964م و1971م، بدءاً من "النيّء والمطبوخ" الذي بحث فيه الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة عبر اكتشاف نار الطبخ، ومروراً ب"من العسل إلى الرماد" الذي حلّل فيه تقابلاً ثانياً، هو التقابل بين العسل والتبغ، من حيث أن أحدهما يكمل الأول، فالأول قبل الطبخ والثاني بعده، و"أصل آداب المائدة" الذي بيّن فيه كيف أنّ الانتقال إلى الثقافة يتجلّى في الأساطير بواسطة أخلاق تتعلّق بآداب المائدة وتربية النساء والزواج، وانتهاءً ب"الإنسان العاري" حيث تتجلّى الطبيعة في العري، بينما يتمّ الانتقال إلى الثقافة عن طريق التبادل التجاري.


3.
وكان الراحل كلود ليفي- ستروس مديناً لثلاثة مجالات علمية في بحثه عن البنية الخفية التي يمكن بها تفسير الظواهر، هي: الجيولوجيا، الماركسية والتحليل النفسي. تبيّن هذه الثلاثة أن الفهم يتمّ بإرجاع نمطٍ من الواقع إلى نمطٍ آخر، وأن الواقع الحقيقي ليس أبداً هذا الواقع الظاهر. مثلما أنّ حدوسه الأولى ازدادت دقّةً واتّخذت لغة يقينيّة وصبغة علمية عندما تعرَّف، عن كثب، على أثنولوجيا مارسيل موس الذي أحدثت دراسته عن "العطاء" لدى الشعوب البدائية ثورةً في الفكر الأثنولوجي، وعلى اللسانيات البنيوية التي أفادته في دراسة الظاهرات المجتمعية، كما على الرياضيات الحديثة التي أفادته، بدورها، في معالجة مشاكل القرابة بواسطة نظرية المجموعات، وفي تحليلاته للأساطير الطويلة والدقيقة للغاية بواسطة الرموز الرياضية.
ومثلما يبدو من أبحاثه، كان يريد أن يجعل من الأثنولوجيا علماً يتميز بالدقة اللازمة لنشأة العلوم، وتكون بذلك، أيضاً، نموذجاً للعلوم الإنسانية الأخرى، لا سيّما وأنّها تجد في البنيوية سندها الابستيمولوجي ومنهجها العلمي الذي يسعى إلى التبسيط والتفسير، ويبني النماذج، ويقوم بالتجريب، كما أنّه قادرٌ على التوقع. ولا نستغرب، في هذه الحال، أن يقول ليفي ستراوس أنّه "لا يوجد في فرنسا إلّا ثلاثة بنيويّين حقيقيّين، هم بينفنيست ودوميزيل وأنا. ولا يدخل الآخرون في هذا العدد إلّا بفعل ضلال". ويقصد بالآخرين:جاك لاكان، وميشال فوكو ولويس ألتوسير. وتجلّى التحليل البنيوي، عنده، في مجالين كبيرين، فقد تعلّق بأنساق القرابة أو الأنساق التصنيفية من جهة، والأنساق الأسطورية من جهة أخرى. وطالما ردّد أنّ الفكر البنيوي يبحث باستمرار عن التوفيق بين المحسوس والمعقول، كما لفت إلى أنّ البنيوية قد أعادت للغائيّة مكانتها، وردّت إليها اعتبارها من جديد بعد أن ساد الفكر العلمي المتشبّع بالنزعة الآليّة والتجربيية. وبسبب من الطابع الأكاديمي والسجالي الغنيّ لعلمه، لم يسلم كلود ليفي- ستروس من انتقادات معاصريه, منهم من يرى أنّه لا يلتزم في شأن مصادره بالدقّة الكافية، فهو قادر دائماً على أن يعثر بالضبط على ما يبحث عنه، ومنهم من قال إنّ ممارسته للجدل هيغليّة أكثر منها ماركسية، ومنهم من عاب عليه نكرانه للتاريخ الذي لا يجعل له في ما يكتبه سوى مكانة لا تذكر.
برحيل كلود ليفي ستراوس يفقد الفكر الإنساني واحِداً من مغامريه الكبار، الذي ثار على تقاليد البحث العلمي، وأقام لوحده مدرسة في بحث تلك الآلة الرمزية المتعاظمة التي تنغلق عليها الحياة البشرية، من العائلة إلى المعتقدات الدينية، ومن الأعمال الفنّية إلى آداب المائدة. ولن تشغل صوَرُه الصفحات الثقافية لكُبْريات الصحف والمجلّات لأيّامٍ وأسابيع تنعيه إلى قرّائه المنتشرين في المعمورة فحسب، بل سوف تبقى صورَتُه كمفكّرٍ إشْكاليّ راسِخةً في ذاكرة الأرض لسنواتٍ طِوال إلى جانب إخوته الإشكاليّين فرويد وفوكو وبارث وبورخيس ودريدا، تمثيلاً لا حصْراً. وسوف يكون من المفيد أن يعود المرء، اليوم، إلى "المدارات الحزينة" سيرته الذاتية في الحياة والفكر، ليعلم أيّة "ضريبة رمزية" تلك التي أدّاها ليفي ستراوس من متاع روحه وجسده في عصْرٍ مضطربٍ ولولبيٍّ، حتّى يستحقّ كل هذا الاحترام وهو يُغمض عينيه عن شعلة هذا الكون.

-
من علم نفس واجتماع - مكتبة الكتب العلمية.

نبذة عن الكتاب:
الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى

الأنثروبولجيا البنيوية الجزء الثانى من علم نفس واجتماع

تأليف :كلود ليفي ستروس
ترجمة :د. مصطفي صلاح

الانثروبولوجيا البنيوية يختفي كل كتاب في المجال هذا دون كلود ليفي ستروس، آخر أساتذة الفكر البنيوي والذي لعب دورا حاسما في المجرى الفكري للقرن العشرين. فتح قارات نظرية جديدة في العلوم الإنسانية، وبخاصة في علم الإثنولوجيا الذي أحدث في مجالاته وأساليب مقارباته ثورة كوبيرنيكية شبيهة بالثورة التي أنجزها سيغموند فرويد في مجال التحليل النفسي.

بدأ ليفي- ستروس حياته العملية بدراسة علم الإثنيات، قبل أن تغيّر مكالمة هاتفية مسار حياته وتجلب له حظّاً وشهرة وافرين، وهو يتلقى ذات صباح من أيام خريف 1934م عرضاً من مدير دار المعلمين العليا بباريس للعمل كأستاذ علم الاجتماع في جامعة ساو باولو البرازيلية. وهكذا، مثلما يحكي ذلك في سيرته الفكرية "المدارات الحزينة" الصادرة 1955م، بدأت أهمّ تجربة في حياته، وهو يتولّى مهامّ استكشافية إثنوغرافية في "ماتو غروسو" وفي غابات الأمازون، ويلتقي قبائل هندية تعيش في مجتمعات يقال عنها "بدائية" حيث وصف، بشكل رائع، حياتها وعاداتها ومعتقداتها دوّنها في تقييداته المسمّاة "الحياة العائلية والاجتماعية عند هنود نامبيكوارا". وقد حمل من رحلاته الإستكشافية بالبرازيل بين عامي 1935 و 1939م علماً غزيراً وجزءاً لا يُقدّر من ذاكرة الهنود وحياتهم وأساطيرهم اليومية. وبسبب قوانين حكومة فيشي المعادية لليهود، صرف ليفي ستراوس من الخدمة طبقاً للقوانين العنصرية التي سنّتها، وانتقل لاجئاً، برفقة العشرات بمن فيهم شاعر السوريالية أندريه بروتون، إلى أمريكا حيث عُيّن أستاذاً بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي بنيويورك [1942 ـ 1945]، وفيها عاش "مرحلة هامة من العمل الفكري العميق" بجوار علماء أنثروبولوجيا لامعين، مثلما التقى بالعالم اللغوي رومان ياكبسون الذي استمع إلى دروسه، وتأثّر به، قائلاً:"كنت أمارس البنيوية دون أن أدرك ذلك، وقد أفادني ياكبسون عن وجود منهج علمي قائم". وبعدما وضعت الحرب أوزارها، التحق بالمركز الجامعي للبحث العلمي بباريس. وبعد توالي دراساته الرائدة في الأنثروبولوجيا والإشعاع الذي تركته في زمنها، جرى انتخابه بالكوليج دوفرانس في كرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية عام 1959م، وبالأكاديمية الفرنسية عام 1973م.
ترك كلود ليفي- ستروس كتباً كثيرة خلخلت جزءاً مهمّاً في مفاهيم العلوم الإنسانية، من أهمّها: "البنيات الأساسية للقرابة"1949م، وفيه يدرس المبادئ التي يقوم عليها نظام القرابة وقوانينها، متوقّفاً عند مسألة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، أي هذه الحياة التي تدور على تبادل الممتلكات والنساء والرسائل. و"الأنثروبولوجيا البنيوية" 1958م، الذي رفضته دار غاليمار بذريعة أن فكر الكاتب "لم يبلغ بعد مرحلة النضج"، وهو مجموع مقالات عالج فيها ليفي- ستروس أنساق القرابة والعلاقة بين اللسانيات والأنثروبولوجيا، وبنية الأساطير، ووضعية الأنثروبولوجيا في العلوم الإجتماعية، والسحر ومكان الرمزية فيه. وفي الجزء الثاني، الصادر عام 1973م، يمسك بطريقة في التحليل سعت إلى التأكيد على البنى المخبأة للظواهر الإنسانية، انطلاقاً من فرضية أن "الطبيعة الحقيقية تظهر في البداية من خلال العناية المبذولة للتهرب من إبرازها"، متطرّقاً إلى النزعة الإنسية والنقد الأدبي وكتابات روسو وفضل دوركايم على الأثنولوجيا. و"الفكر البدائي"1962م، الّذي أظهر فيه الكاتب أن فكر "البدائيّين" لا يختلف في طبيعته عن فكر الإنسان المتحضّر، وكلّ ما في الأمر أنّ منطلق "الفكر البدائي" يحوِّل خصائص الواقع، متوجّهاً بالنقد إلى سارتر. و"الطوطمية اليوم"1962م، وفيه يعرض لمختلف النظريات في تفسير الطوطمية، واجداً في تطبيق عالم الحيوان والنبات والجماد على المجتمع وأنظمته مفتاح تفسيره للطوطمية على الخصوص، ومبيِّناً أن الطوطمية ليست سوى وهم من ابتداع الغربيّين الذين لم يفهموا ما تقوم به "الطوطمية" من دوْرٍ تصنيفيّ. إلى جانب ذلك، كرّس مشروعه العلمي في تحليل "الميثولوجيات" بأجزائه الأربعة الممتدّة بين 1964م و1971م، بدءاً من "النيّء والمطبوخ" الذي بحث فيه الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة عبر اكتشاف نار الطبخ، ومروراً ب"من العسل إلى الرماد" الذي حلّل فيه تقابلاً ثانياً، هو التقابل بين العسل والتبغ، من حيث أن أحدهما يكمل الأول، فالأول قبل الطبخ والثاني بعده، و"أصل آداب المائدة" الذي بيّن فيه كيف أنّ الانتقال إلى الثقافة يتجلّى في الأساطير بواسطة أخلاق تتعلّق بآداب المائدة وتربية النساء والزواج، وانتهاءً ب"الإنسان العاري" حيث تتجلّى الطبيعة في العري، بينما يتمّ الانتقال إلى الثقافة عن طريق التبادل التجاري.


3.
وكان الراحل كلود ليفي- ستروس مديناً لثلاثة مجالات علمية في بحثه عن البنية الخفية التي يمكن بها تفسير الظواهر، هي: الجيولوجيا، الماركسية والتحليل النفسي. تبيّن هذه الثلاثة أن الفهم يتمّ بإرجاع نمطٍ من الواقع إلى نمطٍ آخر، وأن الواقع الحقيقي ليس أبداً هذا الواقع الظاهر. مثلما أنّ حدوسه الأولى ازدادت دقّةً واتّخذت لغة يقينيّة وصبغة علمية عندما تعرَّف، عن كثب، على أثنولوجيا مارسيل موس الذي أحدثت دراسته عن "العطاء" لدى الشعوب البدائية ثورةً في الفكر الأثنولوجي، وعلى اللسانيات البنيوية التي أفادته في دراسة الظاهرات المجتمعية، كما على الرياضيات الحديثة التي أفادته، بدورها، في معالجة مشاكل القرابة بواسطة نظرية المجموعات، وفي تحليلاته للأساطير الطويلة والدقيقة للغاية بواسطة الرموز الرياضية.
ومثلما يبدو من أبحاثه، كان يريد أن يجعل من الأثنولوجيا علماً يتميز بالدقة اللازمة لنشأة العلوم، وتكون بذلك، أيضاً، نموذجاً للعلوم الإنسانية الأخرى، لا سيّما وأنّها تجد في البنيوية سندها الابستيمولوجي ومنهجها العلمي الذي يسعى إلى التبسيط والتفسير، ويبني النماذج، ويقوم بالتجريب، كما أنّه قادرٌ على التوقع. ولا نستغرب، في هذه الحال، أن يقول ليفي ستراوس أنّه "لا يوجد في فرنسا إلّا ثلاثة بنيويّين حقيقيّين، هم بينفنيست ودوميزيل وأنا. ولا يدخل الآخرون في هذا العدد إلّا بفعل ضلال". ويقصد بالآخرين:جاك لاكان، وميشال فوكو ولويس ألتوسير. وتجلّى التحليل البنيوي، عنده، في مجالين كبيرين، فقد تعلّق بأنساق القرابة أو الأنساق التصنيفية من جهة، والأنساق الأسطورية من جهة أخرى. وطالما ردّد أنّ الفكر البنيوي يبحث باستمرار عن التوفيق بين المحسوس والمعقول، كما لفت إلى أنّ البنيوية قد أعادت للغائيّة مكانتها، وردّت إليها اعتبارها من جديد بعد أن ساد الفكر العلمي المتشبّع بالنزعة الآليّة والتجربيية. وبسبب من الطابع الأكاديمي والسجالي الغنيّ لعلمه، لم يسلم كلود ليفي- ستروس من انتقادات معاصريه, منهم من يرى أنّه لا يلتزم في شأن مصادره بالدقّة الكافية، فهو قادر دائماً على أن يعثر بالضبط على ما يبحث عنه، ومنهم من قال إنّ ممارسته للجدل هيغليّة أكثر منها ماركسية، ومنهم من عاب عليه نكرانه للتاريخ الذي لا يجعل له في ما يكتبه سوى مكانة لا تذكر.
برحيل كلود ليفي ستراوس يفقد الفكر الإنساني واحِداً من مغامريه الكبار، الذي ثار على تقاليد البحث العلمي، وأقام لوحده مدرسة في بحث تلك الآلة الرمزية المتعاظمة التي تنغلق عليها الحياة البشرية، من العائلة إلى المعتقدات الدينية، ومن الأعمال الفنّية إلى آداب المائدة. ولن تشغل صوَرُه الصفحات الثقافية لكُبْريات الصحف والمجلّات لأيّامٍ وأسابيع تنعيه إلى قرّائه المنتشرين في المعمورة فحسب، بل سوف تبقى صورَتُه كمفكّرٍ إشْكاليّ راسِخةً في ذاكرة الأرض لسنواتٍ طِوال إلى جانب إخوته الإشكاليّين فرويد وفوكو وبارث وبورخيس ودريدا، تمثيلاً لا حصْراً. وسوف يكون من المفيد أن يعود المرء، اليوم، إلى "المدارات الحزينة" سيرته الذاتية في الحياة والفكر، ليعلم أيّة "ضريبة رمزية" تلك التي أدّاها ليفي ستراوس من متاع روحه وجسده في عصْرٍ مضطربٍ ولولبيٍّ، حتّى يستحقّ كل هذا الاحترام وهو يُغمض عينيه عن شعلة هذا الكون.


.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى من علم نفس واجتماع

الانثروبولوجيا البنيوية يختفي كل كتاب في المجال هذا دون كلود ليفي ستروس، آخر أساتذة الفكر البنيوي والذي لعب دورا حاسما في المجرى الفكري للقرن العشرين. فتح قارات نظرية جديدة في العلوم الإنسانية، وبخاصة في علم الإثنولوجيا الذي أحدث في مجالاته وأساليب مقارباته ثورة كوبيرنيكية شبيهة بالثورة التي أنجزها سيغموند فرويد في مجال التحليل النفسي.
 

الانثروبولوجيا البنيوية يختفي كل كتاب في المجال هذا دون كلود ليفي ستروس، آخر أساتذة الفكر البنيوي والذي لعب دورا حاسما في المجرى الفكري للقرن العشرين. فتح قارات نظرية جديدة في العلوم الإنسانية، وبخاصة في علم الإثنولوجيا الذي أحدث في مجالاته وأساليب مقارباته ثورة كوبيرنيكية شبيهة بالثورة التي أنجزها سيغموند فرويد في مجال التحليل النفسي.

بدأ ليفي- ستروس حياته العملية بدراسة علم الإثنيات، قبل أن تغيّر مكالمة هاتفية مسار حياته وتجلب له حظّاً وشهرة وافرين، وهو يتلقى ذات صباح من أيام خريف 1934م عرضاً من مدير دار المعلمين العليا بباريس للعمل كأستاذ علم الاجتماع في جامعة ساو باولو البرازيلية. وهكذا، مثلما يحكي ذلك في سيرته الفكرية "المدارات الحزينة" الصادرة 1955م، بدأت أهمّ تجربة في حياته، وهو يتولّى مهامّ استكشافية إثنوغرافية في "ماتو غروسو" وفي غابات الأمازون، ويلتقي قبائل هندية تعيش في مجتمعات يقال عنها "بدائية" حيث وصف، بشكل رائع، حياتها وعاداتها ومعتقداتها دوّنها في تقييداته المسمّاة "الحياة العائلية والاجتماعية عند هنود نامبيكوارا". وقد حمل من رحلاته الإستكشافية بالبرازيل بين عامي 1935 و 1939م علماً غزيراً وجزءاً لا يُقدّر من ذاكرة الهنود وحياتهم وأساطيرهم اليومية. وبسبب قوانين حكومة فيشي المعادية لليهود، صرف ليفي ستراوس من الخدمة طبقاً للقوانين العنصرية التي سنّتها، وانتقل لاجئاً، برفقة العشرات بمن فيهم شاعر السوريالية أندريه بروتون، إلى أمريكا حيث عُيّن أستاذاً بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي بنيويورك [1942 ـ 1945]، وفيها عاش "مرحلة هامة من العمل الفكري العميق" بجوار علماء أنثروبولوجيا لامعين، مثلما التقى بالعالم اللغوي رومان ياكبسون الذي استمع إلى دروسه، وتأثّر به، قائلاً:"كنت أمارس البنيوية دون أن أدرك ذلك، وقد أفادني ياكبسون عن وجود منهج علمي قائم". وبعدما وضعت الحرب أوزارها، التحق بالمركز الجامعي للبحث العلمي بباريس. وبعد توالي دراساته الرائدة في الأنثروبولوجيا والإشعاع الذي تركته في زمنها، جرى انتخابه بالكوليج دوفرانس في كرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية عام 1959م، وبالأكاديمية الفرنسية عام 1973م.
ترك كلود ليفي- ستروس كتباً كثيرة خلخلت جزءاً مهمّاً في مفاهيم العلوم الإنسانية، من أهمّها: "البنيات الأساسية للقرابة"1949م، وفيه يدرس المبادئ التي يقوم عليها نظام القرابة وقوانينها، متوقّفاً عند مسألة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، أي هذه الحياة التي تدور على تبادل الممتلكات والنساء والرسائل. و"الأنثروبولوجيا البنيوية" 1958م، الذي رفضته دار غاليمار بذريعة أن فكر الكاتب "لم يبلغ بعد مرحلة النضج"، وهو مجموع مقالات عالج فيها ليفي- ستروس أنساق القرابة والعلاقة بين اللسانيات والأنثروبولوجيا، وبنية الأساطير، ووضعية الأنثروبولوجيا في العلوم الإجتماعية، والسحر ومكان الرمزية فيه. وفي الجزء الثاني، الصادر عام 1973م، يمسك بطريقة في التحليل سعت إلى التأكيد على البنى المخبأة للظواهر الإنسانية، انطلاقاً من فرضية أن "الطبيعة الحقيقية تظهر في البداية من خلال العناية المبذولة للتهرب من إبرازها"، متطرّقاً إلى النزعة الإنسية والنقد الأدبي وكتابات روسو وفضل دوركايم على الأثنولوجيا. و"الفكر البدائي"1962م، الّذي أظهر فيه الكاتب أن فكر "البدائيّين" لا يختلف في طبيعته عن فكر الإنسان المتحضّر، وكلّ ما في الأمر أنّ منطلق "الفكر البدائي" يحوِّل خصائص الواقع، متوجّهاً بالنقد إلى سارتر. و"الطوطمية اليوم"1962م، وفيه يعرض لمختلف النظريات في تفسير الطوطمية، واجداً في تطبيق عالم الحيوان والنبات والجماد على المجتمع وأنظمته مفتاح تفسيره للطوطمية على الخصوص، ومبيِّناً أن الطوطمية ليست سوى وهم من ابتداع الغربيّين الذين لم يفهموا ما تقوم به "الطوطمية" من دوْرٍ تصنيفيّ. إلى جانب ذلك، كرّس مشروعه العلمي في تحليل "الميثولوجيات" بأجزائه الأربعة الممتدّة بين 1964م و1971م، بدءاً من "النيّء والمطبوخ" الذي بحث فيه الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة عبر اكتشاف نار الطبخ، ومروراً ب"من العسل إلى الرماد" الذي حلّل فيه تقابلاً ثانياً، هو التقابل بين العسل والتبغ، من حيث أن أحدهما يكمل الأول، فالأول قبل الطبخ والثاني بعده، و"أصل آداب المائدة" الذي بيّن فيه كيف أنّ الانتقال إلى الثقافة يتجلّى في الأساطير بواسطة أخلاق تتعلّق بآداب المائدة وتربية النساء والزواج، وانتهاءً ب"الإنسان العاري" حيث تتجلّى الطبيعة في العري، بينما يتمّ الانتقال إلى الثقافة عن طريق التبادل التجاري.


3.
 وكان الراحل كلود ليفي- ستروس مديناً لثلاثة مجالات علمية في بحثه عن البنية الخفية التي يمكن بها تفسير الظواهر، هي: الجيولوجيا، الماركسية والتحليل النفسي. تبيّن هذه الثلاثة أن الفهم يتمّ بإرجاع نمطٍ من الواقع إلى نمطٍ آخر، وأن الواقع الحقيقي ليس أبداً هذا الواقع الظاهر. مثلما أنّ حدوسه الأولى ازدادت دقّةً واتّخذت لغة يقينيّة وصبغة علمية عندما تعرَّف، عن كثب، على أثنولوجيا مارسيل موس الذي أحدثت دراسته عن "العطاء" لدى الشعوب البدائية ثورةً في الفكر الأثنولوجي، وعلى اللسانيات البنيوية التي أفادته في دراسة الظاهرات المجتمعية، كما على الرياضيات الحديثة التي أفادته، بدورها، في معالجة مشاكل القرابة بواسطة نظرية المجموعات، وفي تحليلاته للأساطير الطويلة والدقيقة للغاية بواسطة الرموز الرياضية.
ومثلما يبدو من أبحاثه، كان يريد أن يجعل من الأثنولوجيا علماً يتميز بالدقة اللازمة لنشأة العلوم، وتكون بذلك، أيضاً، نموذجاً للعلوم الإنسانية الأخرى، لا سيّما وأنّها تجد في البنيوية سندها الابستيمولوجي ومنهجها العلمي الذي يسعى إلى التبسيط والتفسير، ويبني النماذج، ويقوم بالتجريب، كما أنّه قادرٌ على التوقع. ولا نستغرب، في هذه الحال، أن يقول ليفي ستراوس أنّه "لا يوجد في فرنسا إلّا ثلاثة بنيويّين حقيقيّين، هم بينفنيست ودوميزيل وأنا. ولا يدخل الآخرون في هذا العدد إلّا بفعل ضلال". ويقصد بالآخرين:جاك لاكان، وميشال فوكو ولويس ألتوسير. وتجلّى التحليل البنيوي، عنده، في مجالين كبيرين، فقد تعلّق بأنساق القرابة أو الأنساق التصنيفية من جهة، والأنساق الأسطورية من جهة أخرى. وطالما ردّد أنّ الفكر البنيوي يبحث باستمرار عن التوفيق بين المحسوس والمعقول، كما لفت إلى أنّ البنيوية قد أعادت للغائيّة مكانتها، وردّت إليها اعتبارها من جديد بعد أن ساد الفكر العلمي المتشبّع بالنزعة الآليّة والتجربيية. وبسبب من الطابع الأكاديمي والسجالي الغنيّ لعلمه، لم يسلم كلود ليفي- ستروس من انتقادات معاصريه, منهم من يرى أنّه لا يلتزم في شأن مصادره بالدقّة الكافية، فهو قادر دائماً على أن يعثر بالضبط على ما يبحث عنه، ومنهم من قال إنّ ممارسته للجدل هيغليّة أكثر منها ماركسية، ومنهم من عاب عليه نكرانه للتاريخ الذي لا يجعل له في ما يكتبه سوى مكانة لا تذكر.
 برحيل كلود ليفي ستراوس يفقد الفكر الإنساني واحِداً من مغامريه الكبار، الذي ثار على تقاليد البحث العلمي، وأقام لوحده مدرسة في بحث تلك الآلة الرمزية المتعاظمة التي تنغلق عليها الحياة البشرية، من العائلة إلى المعتقدات الدينية، ومن الأعمال الفنّية إلى آداب المائدة. ولن تشغل صوَرُه الصفحات الثقافية لكُبْريات الصحف والمجلّات لأيّامٍ وأسابيع تنعيه إلى قرّائه المنتشرين في المعمورة فحسب، بل سوف تبقى صورَتُه كمفكّرٍ إشْكاليّ راسِخةً في ذاكرة الأرض لسنواتٍ طِوال إلى جانب إخوته الإشكاليّين فرويد وفوكو وبارث وبورخيس ودريدا، تمثيلاً لا حصْراً. وسوف يكون من المفيد أن يعود المرء، اليوم، إلى "المدارات الحزينة" سيرته الذاتية في الحياة والفكر، ليعلم أيّة "ضريبة رمزية" تلك التي أدّاها ليفي ستراوس من متاع روحه وجسده في عصْرٍ مضطربٍ ولولبيٍّ، حتّى يستحقّ كل هذا الاحترام وهو يُغمض عينيه عن شعلة هذا الكون.

 
 

 الأنثروبولوجيا البنيوية - الجزء الثانى
مؤلفات كلود ليفي شتراوس
كتاب علم الانسان pdf
تحميل كتاب مدخل الى الانثروبولوجيا pdf
الانثروبولوجيا البنيوية pdf
كتاب الانثروبولوجيا الثقافية pdf
تحميل كتاب الانثروبولوجيا الاجتماعية pdf
الانثروبولوجيا الثقافية عاطف وصفي pdf
تعريف علم الانثروبولوجيا



حجم الكتاب عند التحميل : 13.9 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل الأنثروبولجيا البنيوية - الجزء الثانى
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'